top of page
Rechercher
  • Photo du rédacteurقناة الكاتب عماد الدين زناف

بودريار ووالواقع الفائق

لم أكن أظن أنني سأقول هذا، لكن هناك فيلسوف يسبق نيتشه في الأهمية -لقراءة مخاطر هذا العصر-، نيتشه يُقرأ بشكل عام وأوسع، بينما يبقى بودريار أكثر دقة وتفصيلاً.

بعتبر جان بودريار من الفلاسفة الفرنسيين ما بعد حداثيين الأكثر إثارة للجدل بمواضيعه الجدلية، بالرغم من أنه الأقل تداولا بين قراء الفكر والفلسفة الحاليين، ذلك أنه عرف عزوفا ونفورًا سريعا من طرف الإعلام الفرنسي، عكس أقرانه في الزمن والموجة الفرنسية (دولوز، فوكو، دريدا، لاكون..). عرّف بودريار سريعا نفسه كفيلسوف معادٍ لعصره ولما سيؤول إليه الزمن.

فقد قدّم مؤلفاته ومحاضراته كلها في اتجاه مُجمله هو معاداة الجانب المُظلم للرقمنة والتلفاز والموجة الليبرالية العنيفة سياسيا وإعلاميا وتكنولوجياً بشكل خاص، ولم يُعرف بودريار في عالم الفلسفة إلا بعد أن تُرجم إلى الإنجليزية، ورغم توجيهه السهام نحو الولايات المتحدة وسياسيتها، وبانتشار صوته هناك، يَظهر لنا انفتاح الأمريكيين على النقد، فهم داء العصر والدواء له، وهم أصل حركة العصر معرفيا، بشقّيها وقُطبيها. بدأ الكاتب مسيرته بكتاب استهلاك الرموز، ثم تلاه بكتاب مجتمع الاستهلاك، ثم كتاب نقد سياسة اقتصاد الرموز، ثم التبادل الرمزي للموت، وصولا إلى الكتاب الأكثر شهرة الاصطناع والمصطنع (1981) إلى كتب مثل الإغراء وأمريكا وذكريات مرحة والعشرات غيرها. المُلاحظ من المواضيع والعناوين التي طرحتها هو التسلسل الفلسفي والفكري والتناسق "الأنيق" بينها، إذ أننا نجد تشابكا وتلاحقا بينها، وأن كل كتاب يشد أزر الكتاب الذي سبقه، وأن المواضيع الأساسية هي نفسها بالرغم من تغير المعطيات عبر الأزمان، إذ أن أول كتاب ظهر في 1968، وآخرهم كتابين في 2008 بعد وفاته بسنة (2007).

تكلمَ بودريار على المجتمع والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا بطريقة غير مسبوقة، فهو أو من تحدّث عن موت الواقع وانصهاره مع الافتراض، معبرًا عن ذلك باندماج أو موت الواقع المعاش مع الرمزيات التي تُقدم في التلفزيون، رمزيات في الإشهار لأشياء تصنع فينا الرغبة في اقتنائها، والأفلام التي جعلت الرومنسية مُعبر عنها عن طريق لباس وعطور وأزهار وأساليب كلامية محددة، ما جعل المجتمعات موحدة في طريقة تفكير واحدة، أي نقل واقع كل الشعوب إلى عالم فوق واقعي (hyperréel). تحدث عن الدين وكيف أصبح (وكان) يُعبّر عنه بالتجسيم والتجسيد (الرمزية) إذ كل شيء خاضع للإسقاط الشكلي لكي نستطيع أن "نراه"، وهذا ما يعد خطرًا في كثير من الأحيان، الواقع الفائق هو واقع مُنتقل في عالم آخر، وكمثال آخر عن الدين، طرح بودريار مثال العطر غير الحقيقي للأشياء، مثل رائحة نعناع مُصنّعة، أو عصير بذوق البرتقال المصنع، أو مُلوّن غذائي يضاف إلى عصير مركز مُصنّع بسكر غير طبيعي (aspartame)، وهذا ما ينقلنا من موضوع الرمزية والواقع الفائق، إلى موضوع الاصطناع، التمويه، والمحاكاة، أي من افتراض واقع جديد، إلى محاولة تقليد الواقع في عالم آخر مثل الألعاب، إلى انتقال كامل إلى ذلك الواقع الافتراضي (مواقع التواصل، وصولا النظارات الذكية "الواقع الافتراضي")

من هذه الثغرة جاء فيلم ماتريكس، متأثرا بفكر بورديار في تحول العالم إلى حرب رقمية لا يمكن التخلص منها، كنوع من الحرب بين المحاكاة والحقيقة. إلا أن –وكما أشرت سابقا- لم يعبر بودريار عن رضاه بفكرة الفيلم، وقال أنها أقرب إلى فكرة كهف أفلاطون منها إلى فكرته. لأنه يقول بأن ماتريكس فصل بين العالم الملموس والعالم الافتراضي، إلا أن الواقع حقيقة هو اختلاط الواقع بالافتراض والخيال، فالصعوبة تكمن هنا، في التفريق بين الحقيقة والخيال، ما يجعلنا نقوم ونؤمن بالحماقات. الحماقات التي تقودنا إلى العدمية، الموضوع الذي إذا ما ذكرناه ذكرنا نيتشه الذي تخصص في إعادة تعريفه، لأن بالتعريف المتداول، يعد نيتشه عدميا، لكن إذا ما أخذنا نظرة نيتشه أن العدمية هي قلب القيم الإنسانية، فالجميع عدمي بالنسبة لنيتشه ما دام يفرض فكرًا جديدا على صيرورة الطبيعة الأولى الأصلية. وعندما تحدث عن المصطنع (simulacres) ربطه بالعلم، وقسمه إلى مصطنع طبيعي، إنتاجي، ومصطنع الاصطناع. الأول قال أنه على علاقة مع الطبيعة، أي أنه قائم على تقليدها أو تزويرها. الثاني يقوم على الطاقة والآلة وإنتاجياتهما. الثالث، وهو الثالث أنه قائم على الإعلام واللعبة السيبرانية. الجزء الأول هو مقاربة للمخيال الطوباوي (utopia) وهو الخيال الذي يرمي للمثالية المستحيلة. الثاني مقاربة للعلم التخيلي، وهو العلم الفعلي (التطبيقي).

يقول إن السريالية (الفوق واقعية) والدادائية (حركة معادية للحرب) والعدمية السياسية هي عبارة عن ظواهر تشارك في ما يسميه تدمير نظام المعنى.

في الأخير، إذا كان فريدريش نيتشه بوابة لفهم فلسفة ما بعد الحداثة، فإن بودريار هو المناظير التي تقرب المعاني والمباحث ما بعد الحداثية وما وراء ذلك، فمن كان منكم جديّا في البحث الفلسفي، عليه ألا يتجاوز جان بودريار.

المقال 345

28 vues0 commentaire

Posts récents

Voir tout
bottom of page