top of page
Rechercher
  • Photo du rédacteurقناة الكاتب عماد الدين زناف

أبواب التاريخ وحواشيه

أبواب التاريخ وحواشيه.

مقالة.

إن للمدارس التاريخية التي انطلقت إبان النهضة الأوربية إلى يومنا، والتي درست التاريخ وأعادت صياغاته بالمنظورات المختلفة، الفضل العظيم في تأسيس علم التاريخ القائم بذاته. فلقد عرفَ هذا العلم عدّة تطوّرات وتغييرات، فصناعة مادة علمية صلبة كان أمرًا مهما، قبل الشروع في تأريخ أي شيء تاريخي. ولقد علمنا من اختلاف المدارس، أن كل مؤرّخ اختار مدرسته، وأنّ كل قارئ اختار مؤرّخه هو الآخر، وبالتالي يختار القراء مدرستهم التاريخية عن طريق اختيار مؤرخيهم.

الباحث في التاريخ العالمي ينتهج أسلوبين، إما البحث عن الحقيقة بتجرّد تام عن ميوله، أو يبحثً في التاريخ عمّا يؤكد انحيازه، ما سُمّي مغالطة (الإنحياز المعرفيّ). ولا يخفى على مؤرّخ ولا قارئ مهتم بالتاريخ، أن الأحداث المخطوطة قد تكون حقيقيّة، وقد تكون مُلفّقة، وقد يكون أساسها صحيح لكن أضيفت لها روايات لغرض سياسيّ، وقد يختلط التاريخ مع الرواية ومع الأسطورة ومع الخرافة بفعلِ فاعل. إن قوة الحدث التاريخيّ في الأساس هو تعدّد المراجع التي أرّخته في ذلك الزّمن، فإن قيلَ إن حضارةً قد نمت في وسط آسيا في زمن ما، فإن اثبات وجود هذه الحضارة يكون بتقصّي ما كتبته ورسمته كل الحضارات المُجاروة لها، فالاكتفاء بما خلّفته تلك الحضارة وإن كان فريدًا من نوعه، فهو لا يشفع لها في كتب التاريخ إن لم تتعدّد المصادر المتكلّمة عنها.

هل التاريخ يعيد نفسه أو لا يعيد؟

بعدَ جزئية النظر إلى التاريخ من بوّابة التأكيد المعرفي أو البحث عن المعرفة، نجد أنفسنا مجبرين على تبنّي توجّه آخر، إما الايمان بعودة التاريخ كما هو، أي أن التاريخ يمشي بشكل دائريّ حتى يُلامس نفسه، وهكذا يمشي بطريقة دائرية مستمرة، أو، التاريخ عبارة عن خطّ مستقيم لا يعيد نفسه تماما، وبالتالي نحن أمام تاريخ انطلق منذ نشأة الإنسانية وهو في تقدّم مستمر، تصاعديا تارةً، ونزولا تارة أخرى. إن من يتبنّى نظرة العود التاريخي، فإنّه لا محالة سيرى إلى الأحداث الحالية من الزمن، نسخة من الماضي، وإذا استنسخ الحدث، فهو سيستنسخ نفس الحلول التي عُرضت في ذلك الزمن، فهو يرى أن الصحيح ما صحّ في زمن مضى، وما كان خطئًا يجب إصلاحه بما كان يجب أن يحدث في ذلك الزمن أيضا، أي أنه يتبنى نفس الحلول لكل زمن. أما الذي يرى في أن التاريخ لا يعيد نفسه، إنما هو تشابه وهميّ وغير تطابقيّ، فهو سيرى أن لكل زمن حلوله، ولكل ظرف منهجية وخطة، وأن الزمن للعبرة ليس للاستنساخ.

هل نحن ضمن التاريخ أم خارج التاريخ؟

هل يستطيع قارئ التاريخ التجرّد من التاريخ ويقرأ العالم كأنه ليس منه؟ قد يُقال أن هذا توجّه من يبحث عن الحقيقة، لكن الأمر مختلف، لأن التجرّد من التاريخ والحكم عليه من فوق، هو لعب دور وهمي، إذ أن الإنسان ابن حضارة وبيئة ومعتقد ولسان وطباع وعرف، حيث لا يمكنه بأي حال أن يدّعيَ التنصل والتجرّد من كل هذا ليقرأ التاريخ الذي قد يسيء إلى ما صنعه كفرد.

هل هناك من يبحث عن الحقيقة في التاريخ؟

إن المنطق الإنساني لفهم التاريخ يدفعنا للبحث عن الحقيقة، لكننا ندرك أشد الإدراك أن الحقيقة لم تعد تعني أحدًا، فمن أراد الحقيقة عليه أن يتحلّى بالشجاعة، شجاعة تقبّلها وشجاعة العيش في عزلة عن الحالمين. ولكن المنطق الإنساني ليس هو المدرسة الوحيدة التي يمكننا النظر بها إلى التاريخ، فهناك المنطق العقلاني، المنطق الفلسفي، المنطق الرومنطيقي، المنطق الوضعي، المنطق التاريخاني (التاريخانية)، المنطق الماركسي المادي، المنطق التفكيكي، المنطق البُنيوي، المنطقي النفساني التحليلي الإفرويدي.. وربما أغفلت العديد منها. لربما توهم الباحث عن الحقيقة في التاريخ أنها في أحد هذه المنطقيّات؟

في نهاية المطاف، هل التاريخ كله مادّة وظيفية؟

لو كان الإنسان مُستأمنًا على شيء لاستُأمن عن التاريخ، ولكن الله استأمن بني اسرائيـ ل عن التوراة والإنجيل فحرّفوها، بذلك أنزل الله الذكر وقال إنّه هو الحافظ له. ولكنّ التاريخ ليس بهذا الهُزال كي بتم العبث به إلى درجة تغيير مجرة التاريخ، ما كان ولا يكون، لأن المجتمعات تهزم الكذب، وحاضرها يهزم التلفيق أو ما زُعم، وإن التاريخ مصدر معرفيّ قويّ من مصادر المعرفة الثلاث، المصدر الحسي، المصدر العقلي، والمصدر النقلي (المكتوب). وإن المسلمين مُنيَ عليهم بنعمة لم تعرفها البشريّة قطّ، وهو التواتر، التواتر هو نقل قيلٍ عن قال قد يتجاوز الأربعين رجلا. فالتاريخ اللفظي لا يزال من أقوى المصادر، إذ أنه يخترق الأزمان كما يخترق ضوء الليزر الزجاجات، وإن تخلل بعضده الكذب، فمجموع الرواية عن خبر واحد يكاد يكون أكبر دليل على القياس حقيقة الحدث والقول من بطلانه.

التاريخ كرة ملتهبة، نستطيع الاقتراب منها ولكن لا يمكننا العبث بها، ومن يفعل ذلك سيحترق بمنطق الخلق وصيرورة العالم

المقال 369

28 vues0 commentaire

Posts récents

Voir tout
bottom of page